الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الأحكام السلطانية والسياسة الدينية والولايات الشرعية
.الْفَصْلُ الثاني: فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ: وَإِذَا بَغَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَخَالَفُوا رَأْيَ الْجَمَاعَةِ وَانْفَرَدُوا بِمَذْهَبٍ ابْتَدَعُوهُ، فَإِنْ لَمْ يَخْرُجُوا بِهِ عَنْ الْمَظَاهِرِ بِطَاعَةِ الْإِمَامِ وَلَا تَحَيَّزُوا بِدَارٍ اعْتَزَلُوا فِيهَا وَكَانُوا أَفْرَادًا مُتَفَرِّقِينَ تَنَالُهُمْ الْقُدْرَةُ وَتَمْتَدُّ إلَيْهِمْ الْيَدُ تُرِكُوا وَلَمْ يُحَارَبُوا وَأُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْعَدْلِ فِيمَا يَجِبُ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ، وَقَدْ عَرَضَ قَوْمٌ مِنْ الْخَوَارِجِ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ لِمُخَالَفَةِ رَأْيِهِ.وَقَالَ أَحَدُهُمْ وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِهِ لَا حُكْمَ إلَّا لِلَّهِ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ، وَلَا نَمْنَعُكُمْ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا، فَإِنْ تَظَاهَرُوا بِاعْتِقَادِهِمْ وَهُمْ عَلَى اخْتِلَاطِهِمْ بِأَهْلِ الْعَدْلِ، أَوْضَحَ لَهُمْ الْإِمَامُ فَسَادَ مَا اعْتَقَدُوا وَبُطْلَانَ مَا ابْتَدَعُوا لِيَرْجِعُوا عَنْهُ إلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ وَمُوَافَقَةِ الْجَمَاعَةِ، وَجَازَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ مِنْهُمْ مَنْ تَظَاهَرَ بِالْفَسَادِ أَدَبًا وَزَجْرًا وَلَمْ يَتَجَاوَزْهُ إلَى قَتْلٍ وَلَا حَدٍّ.رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٍ بَعْدَ إيمَانٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إحْصَانٍ، أَوْ قَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ».فَإِذَا اعْتَزَلَتْ هَذِهِ الْفِئَةُ الْبَاغِيَةُ أَهْلَ الْعَدْلِ وَتَحَيَّزَتْ بِدَارٍ تَمَيَّزَتْ فِيهَا عَنْ مُخَالَطَةِ الْجَمَاعَةِ فَإِنْ لَمْ تَمْتَنِعْ عَنْ حَقٍّ وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ طَاعَةٍ لَمْ يُحَارَبُوا مَا أَقَامُوا عَلَى الطَّاعَةِ وَتَأْدِيَةِ الْحُقُوقِ.قَدْ اعْتَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْ الْخَوَارِجِ عَلِيًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنَّهْرَوَانِ فَوَلَّى عَلَيْهِمْ عَامِلًا أَقَامُوا عَلَى طَاعَتِهِ زَمَانًا وَهُوَ لَهُمْ مُوَادِعٌ إلَى أَنْ قَتَلُوهُ فَأَنْفَذَ إلَيْهِمْ أَنْ سَلِّمُوا إلَيَّ قَاتِلَهُ فَأَبَوْا وَقَالُوا كُلُّنَا قَتَلَهُ قَالَ فَاسْتَسْلِمُوا إلَيَّ أَقْتَصُّ مِنْكُمْ وَسَارَ إلَيْهِمْ فَقَتَلَ أَكْثَرَهُمْ.وَإِنْ امْتَنَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْبَاغِيَةُ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ وَمَنَعُوا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحُقُوقِ وَتَفَرَّدُوا بِاجْتِبَاءِ الْأَمْوَالِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَلَمْ يُنَصِّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ إمَامًا وَلَا قَدَّمُوا عَلَيْهِمْ زَعِيمًا كَانَ مَا اجْتَبُوهُ مِنْ الْأَمْوَالِ غَصْبًا لَا تَبْرَأُ مِنْهُ ذِمَّةٌ، وَمَا نَفَّذُوهُ مِنْ الْأَحْكَامِ مَرْدُودًا لَا يَثْبُتُ بِهِ حَقٌّ.وَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ وَقَدْ نَصَّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ إمَامًا اجْتَبَوْا بِقَوْلِهِ الْأَمْوَالَ وَنَفَّذُوا بِأَمْرِهِ الْأَحْكَامَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَحْكَامِهِمْ بِالرَّدِّ وَلَا لِمَا اجْتَبَوْهُ بِالْمُطَالَبَةِ وَحُورِبُوا فِي الْحَالَيْنِ عَلَى سَوَاءٍ لِيَنْزِعُوا عَنْ الْمُبَايَنَةِ وَيَفِيئُوا إلَى الطَّاعَةِ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ}.وَفِي قَوْلِهِ: {فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى}.وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا بَغَتْ بِالتَّعَدِّي فِي الْقِتَالِ وَالثَّانِي بَغَتْ بِالْعُدُولِ عَنْ الصُّلْحِ، وَقَوْلُهُ {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} يَعْنِي بِالسَّيْفِ رَدْعًا عَنْ الْبَغْيِ وَزَجْرًا عَنْ الْمُخَالَفَةِ.وَفِي قَوْله تَعَالَى: {حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ}.وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الصُّلْحِ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.وَالثَّانِي إلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ رَسُولِهِ فِيمَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.{فَإِنْ فَاءَتْ} أَيْ رَجَعَتْ عَنْ الْبَغْيِ {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ}.فِيهِ وَجْهَانِ:أَحَدُهُمَا بِالْحَقِّ.وَالثَّانِي بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا قَلَّدَ الْإِمَامُ أَمِيرًا عَلَى قِتَالِ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْ الْبُغَاةِ قَدَّمَ قَبْلَ الْقِتَالِ إنْذَارَهُمْ وَإِعْذَارَهُمْ، ثُمَّ قَاتَلَهُمْ إذَا أَصَرُّوا عَلَى الْبَغْيِ كِفَاحًا وَلَا يَهْجُمُ عَلَيْهِمْ غِرَّةً وَبَيَاتًا.وَيُخَالِفُ قِتَالُهُمْ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَقْصِدَ بِالْقِتَالِ رَدْعَهُمْ وَلَا يَعْتَمِدُ بِهِ قَتْلَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَعْتَمِدَ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ.وَالثَّانِي: أَنْ يُقَاتِلَهُمْ مُقْبِلِينَ، وَيَكُفَّ عَنْهُمْ مُدْبِرِينَ، وَيَجُوزُ قِتَالُ أَهْلِ الرِّدَّةِ فِي الْحَرْبِ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ.وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ وَإِنْ جَازَ الْإِجْهَازُ عَلَى جَرْحَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ.أَمَرَ عَلِيٌّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُنَادِيَهُ أَنْ يُنَادِيَ يَوْمَ الْجَمَلِ: أَلَا لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ.وَالرَّابِعُ: أَنْ لَا يَقْتُلَ أَسْرَاهُمْ وَإِنْ قَتَلَ أَسْرَى الْمُشْرِكِينَ وَالْمُرْتَدِّينَ.وَيَعْتَبِرَ أَحْوَالَ مَنْ فِي الْأَسْرِ مِنْهُمْ، فَمَنْ أَمِنَتْ رَجْعَتُهُ إلَى الْقِتَالِ أُطْلِقَ، وَمَنْ لَمْ تُؤْمَنْ مِنْهُ الرَّجْعَةُ حُبِسَ إلَى انْجِلَاءِ الْحَرْبِ ثُمَّ يُطْلَقُ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُحْبَسَ بَعْدَهَا.أَطْلَقَ الْحَجَّاجُ أَسِيرًا مِنْ أَصْحَابِ قَطَرِيِّ بْنِ الْفُجَاءَةِ لِمَعْرِفَةٍ كَانَتْ بَيْنَهُمَا فَقَالَ لَهُ قَطَرِيُّ عُدْ إلَى قِتَالِ عَدُوِّ اللَّهِ الْحَجَّاجِ، فَقَالَ هَيْهَاتَ غَلَّ يَدًا مُطْلِقُهَا وَاسْتَرَقَّ رَقَبَةً مُعْتِقُهَا، وَأَنْشَأَ يَقُولُ (مِنْ الْكَامِلِ):وَالْخَامِسُ: أَنْ لَا يَغْنَمَ أَمْوَالَهُمْ وَلَا يَسْبِيَ ذَرَارِيَّهُمْ.رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنَعَتْ دَارُ الْإِسْلَامِ مَا فِيهَا وَأَبَاحَتْ دَارُ الشِّرْكِ مَا فِيهَا».وَالسَّادِسُ: أَنْ لَا يُسْتَعَانَ لِقِتَالِهِمْ بِمُشْرِكٍ مُعَاهَدٍ وَلَا ذِمِّيٍّ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَالرِّدَّةِ.وَالسَّابِعُ: أَنْ لَا يُهَادِنَهُمْ إلَى مُدَّةٍ وَلَا يُوَادِعَهُمْ عَلَى مَالٍ، فَإِنْ هَادَنَهُمْ إلَى مُدَّةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ، فَإِنْ ضَعُفَ عَنْ قِتَالِهِمْ انْتَظَرَ بِهِمْ الْقُوَّةَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ وَادَعَهُمْ عَلَى مَالٍ بَطَلَتْ الْمُوَادَعَةُ وَنُظِرَ فِي الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ فَيْئِهِمْ أَوْ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ وَصَرَفَ الصَّدَقَاتِ فِي أَهْلِهَا وَالْفَيْءَ فِي مُسْتَحَقِّيهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ خَالِصِ أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَمْلِكَهُ عَلَيْهِمْ وَوَجَبَ رَدُّهُ إلَيْهِمْ.الثَّامِنُ: أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِمْ الْعَرَّادَاتِ، وَلَا يُحْرِقُ عَلَيْهِمْ الْمَسَاكِنَ، وَلَا يَقْطَعُ عَلَيْهِمْ النَّخِيلَ وَالْأَشْجَارَ لِأَنَّهَا دَارُ إسْلَامٍ تَمْنَعُ مَا فِيهَا وَإِنْ بَغَى أَهْلُهَا، فَإِنْ أَحَاطُوا بِأَهْلِ الْعَدْلِ وَخَافُوا مِنْهُمْ الِاصْطِلَامَ جَازَ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ مَا اسْتَطَاعُوا مِنْ اعْتِمَادِ قَتْلِهِمْ وَنَصْبِ الْعَرَّادَاتِ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أُرِيدَتْ نَفْسُهُ جَازَ لَهُ الدَّفْعُ عَنْهَا بِقَتْلِ مَنْ أَرَادَهَا إذَا كَانَ لَا يَنْدَفِعُ بِغَيْرِ الْقَتْلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِدَوَابِّهِمْ وَلَا سِلَاحِهِمْ، وَلَا يُسْتَعَانَ بِهِ فِي قِتَالِهِمْ وَيَرْفَعُ الْيَدَ عَنْهُ فِي وَقْتِ الْقِتَالِ وَبَعْدَهُ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعَانَ عَلَى قِتَالِهِمْ بِدَوَابِّهِمْ وَسِلَاحِهِمْ مَا كَانَتْ الْحَرْبُ قَائِمَةً، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ».فَإِذَا انْجَلَتْ الْحَرْبُ وَمَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ لَهُمْ أَمْوَالٌ رُدَّتْ عَلَيْهِمْ، وَمَا تَلِفَ مِنْهَا فِي غَيْرِ قِتَالٍ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى مُتْلِفِهِ، وَمَا أَتْلَفُوهُ فِي نَائِرَةِ الْحَرْبِ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ فَهُوَ هَدَرٌ، وَمَا أَتْلَفُوهُ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فِي غَيْرِ نَائِرَةِ الْحَرْبِ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ، وَمَا أَتْلَفُوهُ فِي نَائِرَةِ الْحَرْبِ فَفِي وُجُودِ ضَمَانِهِ عَلَيْهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَكُونُ هَدَرًا لَا يُضْمَنُ.وَالثَّانِي يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَا تُبْطِلُ حَقًّا وَلَا تُسْقِطُ غُرْمًا، فَتُضْمَنُ النُّفُوسُ بِالْقَوَدِ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ فِي الْخَطَإِ.وَيُغَسَّلُ قَتْلَى أَهْلِ الْبَغْيِ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ.وَمَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةً لَهُمْ، وَلَيْسَ عَلَى مَيِّتٍ فِي الدُّنْيَا عُقُوبَةٌ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فُرِضَ عَلَى أُمَّتِي غُسْلُ مَوْتَاهَا وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ».وَأَمَّا قَتْلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فِي مَعْرَكَةِ الْحَرْبِ فِي غُسْلِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُغَسَّلُونَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِمْ تَكْرِيمًا وَتَشْرِيفًا كَالشُّهَدَاءِ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ.وَالثَّانِي: يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَإِنْ قُتِلُوا بَغْيًا.وَقَدْ صَلَّى الْمُسْلِمُونَ عَلَى عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَصُلِّيَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِنْ قُتِلُوا ظُلْمًا وَبَغْيًا، وَلَا يَرِثُ بَاغٍ قَتَلَ عَادِلًا وَلَا عَادِلٌ قَتَلَ بَاغِيًا، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ».وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، أُورِثُ الْعَادِلَ مِنْ الْبَاغِي لِأَنَّهُ مُحِقٌّ وَلَا أُورِثُ الْبَاغِيَ مِنْ الْعَادِلِ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ.قَالَ أَبُو يُوسُفَ: أُورِثُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ مُتَأَوِّلٌ فِي قَتْلِهِ، وَإِذَا مَرَّ تُجَّارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِعَشَّارِ أَهْلِ الْبَغْيِ فَعَشَّرَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِمْ عُشِّرُوا، وَلَمْ يُجْزِهِمْ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الزَّكَاةِ، لِأَنَّهُمْ مَرُّوا بِهِمْ مُخْتَارِينَ، وَالزَّكَاةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْمُقِيمِينَ الْمُكْرَهِينَ وَإِذَا أَتَى أَهْلُ الْبَغْيِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ حُدُودًا فَفِي إقَامَتِهَا عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ وَجْهَانِ. .الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي قِتَالِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ: وَإِذَا اجْتَمَعَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ عَلَى شَهْرِ السِّلَاحِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَقَتْلِ النُّفُوسِ وَمَنْعِ السَّابِلَةِ فَهُمْ الْمُحَارِبُونَ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ}.فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ مَذَاهِبَ: أَحَدُهَا أَنَّ الْإِمَامَ وَمَنْ اسْتَنَابَهُ عَلَى قِتَالِهِمْ مِنْ الْوُلَاةِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُقَتِّلَ وَلَا يُصَلِّبَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَتِّلَ وَيُصَلِّبَ، وَبَيْنَ أَنْ يُقَطِّعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ مِنْ خِلَافٍ، وَبَيْنَ أَنْ يَنْفِيَهُمْ مِنْ الْأَرْضِ، وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ وَإِبْرَاهِيمِ النَّخَعِيِّ.وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ ذَا رَأْيٍ وَتَدْبِيرٍ قَتَلَهُ وَلَمْ يَعْفُ عَنْهُ، وَمَنْ كَانَ ذَا بَطْشٍ وَقُوَّةٍ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ ذَا رَأْيٍ وَلَا بَطْشٍ عَزَّرَهُ وَحَبَسَهُ، هَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَطَائِفَةٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ فَجَعَلَهَا مُرَتَّبَةً بِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِمْ لَا بِاخْتِلَافِ أَفْعَالِهِمْ.وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهَا مُرَتَّبَةٌ بِاخْتِلَافِ أَفْعَالِهِمْ لَا بِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِمْ، فَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ: قُتِلَ وَصُلِبَ، وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ: قُتِلَ وَلَمْ يُصْلَبْ وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ: قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، وَمَنْ كَثُرَ وَهَيَّبَ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ عُزِّرَ وَلَمْ يُقْتَلْ وَلَمْ يُقَطَّعْ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ قَتْلِهِمْ ثُمَّ صَلْبِهِمْ وَبَيْنَ قَطْعِ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلِهِمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ قَتْلِهِمْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مَهِيبًا مُكْثِرًا فَحُكْمُهُ كَحُكْمِهِمْ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ}.فَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا أَنَّهُ إبْعَادُهُمْ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إلَى بِلَادِ الشِّرْكِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالزُّهْرِيِّ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ إخْرَاجُهُمْ مِنْ مَدِينَةٍ إلَى أُخْرَى وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ.وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الْحَبْسُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ.وَالرَّابِعُ: وَهُوَ أَنْ يُطْلَبُوا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ فَيَبْعُدُوا وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيِّ.وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} فَفِيهِ لِأَهْلِ التَّأْوِيلِ سِتَّةُ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُحَارِبِينَ الْمُفْسِدِينَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ إذَا تَابُوا مِنْ شِرْكِهِمْ بِالْإِسْلَامِ.وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَا تُسْقِطُ التَّوْبَةُ عَنْهُمْ حَدًّا وَلَا حَقًّا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ وَارِدٌ فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ إذَا تَابُوا بِأَمَانِ الْإِمَامِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، وَأَمَّا التَّائِبُ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَلَا تُؤَثِّرُ تَوْبَتُهُ فِي سُقُوطِ حَدٍّ وَلَا حَقٍّ وَهَذَا قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَالشَّعْبِيِّ.وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَنْ تَابَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ وَهُوَ قَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ وَارِدٌ فِيمَنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مَنَعَةٍ وَتَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ سَقَطَتْ عُقُوبَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَةٍ لَمْ تَسْقُطْ وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَرَبِيعَةَ وَالْحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ.وَالْخَامِسُ: أَنَّ تَوْبَتَهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَنَعَةٍ تَضَعُ عَنْهُ جَمِيعَ حُدُودِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلَا تُسْقِطُ عَنْهُ حُقُوقَ الْآدَمِيِّينَ وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ.وَالسَّادِسُ: أَنَّ تَوْبَتَهُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَضَعُ عَنْهُ جَمِيعَ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ إلَّا الدِّمَاءَ وَهَذَا قَوْلُ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ.فَهَذَا حُكْمُ الْآيَةِ وَاخْتِلَافُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ فِيهَا، ثُمَّ نَقُولُ فِي الْمُحَارِبِينَ إنَّهُمْ إذَا كَانُوا عَلَى امْتِنَاعِهِمْ مُقِيمِينَ قُوتِلُوا كَقِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِمْ وَيُخَالِفُهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ يَجُوزُ قِتَالُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ لِاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُ مَنْ وَلَّى مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَعْمِدَ فِي الْحَرْبِ إلَى قَتْلِ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمِدَ إلَى قَتْلِ أَهْلِ الْبَغْيِ.وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ يُؤَاخَذُونَ بِمَا اسْتَهْلَكُوهُ مِنْ دَمٍ وَمَالٍ فِي الْحَرْبِ وَغَيْرِهَا بِخِلَافِ أَهْلِ الْبَغْيِ.وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ يَجُوزُ حَبْسُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ حَبْسُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ.وَالْخَامِسُ: أَنَّ مَا اجْتَبَوْهُ مِنْ خَرَاجٍ وَأَخَذُوهُ مِنْ صَدَقَاتٍ فَهُوَ كَالْمَأْخُوذِ غَصْبًا نَهْبًا لَا يُسْقِطُ عَنْ أَهْلِ الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ حَقًّا فَيَكُونُ غُرْمُهُ عَلَيْهِمْ مُسْتَحَقًّا، وَإِذَا كَانَ الْمَوْلَى عَلَى قِتَالِهِمْ مَقْصُورَ الْوِلَايَةِ عَلَى مُحَارَبَتِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِمْ حَدًّا، وَلَا أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُمْ حَقًّا وَيَلْزَمُهُ حَمْلُهُمْ إلَى الْإِمَامِ لِيَأْمُرَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ عَامَّةً عَلَى قِتَالِهِمْ وَاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ مِنْهُمْ فلابد أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ لِيَنْفُذَ حُكْمُهُ فِيمَا يُقِيمُهُ مِنْ حَدٍّ وَيَسْتَوْفِيهِ مِنْ حَقٍّ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَشَفَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا بِإِقْرَارِهِمْ طَوْعًا مِنْ غَيْرِ ضَرْبٍ وَلَا إكْرَاهٍ.وَإِمَّا بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، فَإِذَا عَلِمَ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَا فَعَلَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ جَرَائِمِهِ نَظَرَ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَدْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قَتَلَهُ وَصَلَبَهُ بَعْدَ الْقَتْلِ.وَقَالَ مَالِكٌ يُصْلَبُ حَيًّا ثُمَّ يَطْعَنُهُ بِالرُّمْحِ حَتَّى يَمُوتَ وَهَذَا الْقَتْلُ مَحْتُومٌ وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ، وَإِنْ عَفَا عَنْهُ وَلِيُّ الدَّمِ كَانَ عَفْوُهُ لَغْوًا وَيُصْلَبُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَتَجَاوَزُهَا ثُمَّ يَحُطُّهُ بَعْدَهَا، وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قَتَلَهُ وَلَمْ يَصْلُبْهُ وَغَسَّلَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ.وَقَالَ مَالِكٌ يُصَلِّي عَلَيْهِ غَيْرُ مَنْ حَكَمَ بِقَتْلِهِ، وَمَنْ أَخَذَ مِنْهُمْ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ قَطَعَ يَدَهُ وَرِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ فَكَانَ قَطْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى لِسَرِقَتِهِ وَقَطْعُ رِجْلِهِ الْيُسْرَى لِمُجَاهَرَتِهِ، وَمَنْ جَرَحَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَقْتُلْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ اقْتَصَّ مِنْهُمْ الْجَارِحَ إنْ كَانَ فِي مِثْلِهَا قِصَاصٌ، وَفِي إحْتَامِ الْقِصَاصِ فِي الْجُرُوحِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَحْتُومٌ وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْهُ كَالْقَتْلِ وَالثَّانِي هُوَ إلَى خِيَارِ مُسْتَحِقِّهِ تَجِبُ بِمُطَالَبَتِهِ وَيَسْقُطُ بِعَفْوِهِ، وَإِنْ كَانَ الْجَرْحُ مِمَّا لَا قِصَاصَ فِيهِ وَجَبَتْ دِيَةُ الْمَجْرُوحِ إنْ طَلَبَ بِهَا وَتَسْقُطُ إنْ عَفَا عَنْهَا، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُهِيبًا أَوْ مُكْثِرًا لَمْ يُبَاشِرْ قَتْلًا وَلَا جَرْحًا وَلَا أَخْذَ مَالٍ عُزِّرَ أَدَبًا وَزَجْرًا وَجَازَ حَبْسُهُ لِأَنَّ الْحَبْسَ أَحَدُ التَّعْزِيرَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ بِهِ ذَلِكَ؛ لَا قَطْعٌ وَلَا قَتْلٌ.وَجَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ فِيهِ إلْحَاقًا بِحُكْمِ الْمُبَاشِرِينَ مَعَهُ، فَإِنْ تَابُوا عَنْ جَرَائِمِهِمْ بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُ الْمَآثِمُ دُونَ الْمَظَالِمِ وَأُخِذُوا بِمَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْحُدُودِ وَالْحُقُوقِ، فَإِنْ تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ سَقَطَتْ عَنْهُمْ مَعَ الْمَآثِمِ حُدُودُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَلَمْ تَسْقُطْ عَنْهُمْ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، فَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَدْ قَتَلَ فَالْخِيَارُ إلَى الْوَلِيِّ فِي الْقِصَاصِ مِنْهُ أَوْ الْعَفْوِ عَنْهُ وَيَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ إحْتَامُ قَتْلِهِ، وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ قَدْ أَخَذَ الْمَالَ سَقَطَ عَنْهُ الْقَطْعُ وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْغُرْمُ إلَّا بِالْعَفْوِ، وَيَجْرِي عَلَى الْمُحَارِبِينَ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي الْأَمْصَارِ حُكْمُ قُطَّاعِهِ فِي الصَّحَارِي وَالْأَسْفَارِ، وَهُمْ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا بِالْجَرَاءَةِ فِي الْأَمْصَارِ أَغْلَظُ جُرْمًا لَمْ يَكُونُوا أَخَفَّ حُكْمًا.وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ يَخْتَصُّونَ بِهَذَا الْحُكْمِ فِي الصَّحَارِي حَيْثُ لَا يُدْرَكُ الْغَوْثُ، فَأَمَّا فِي الْأَمْصَارِ أَوْ خَارِجِهَا بِحَيْثُ يُدْرَكُ الْغَوْثُ فَلَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ الْجُرْأَةِ فِي الْأَمْصَارِ، وَإِذَا ادَّعَوْا التَّوْبَةَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالدَّعْوَى أَمَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَى التَّوْبَةِ لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُمْ لَهَا لِمَا فِي سُقُوطِهَا مِنْ حَدٍّ قَدْ وَجَبَ.وَإِنْ اُقْتُرِنَ بِدَعْوَاهُمْ أَمَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَى التَّوْبَةِ فَفِي قَبُولِهَا مِنْهُمْ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَجْهَانِ مُحْتَمَلَانِ: أَحَدُهُمَا تُقْبَلُ لِيَكُونَ ذَلِكَ شُبْهَةً تَسْقُطُ بِهَا الْحُدُودُ.وَالثَّانِي: لَا تُقْبَلُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ تَشْهَدُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهَا حُدُودٌ قَدْ وَجَبَتْ، وَالشُّبْهَةُ مَا اُقْتُرِنَتْ بِالْفِعْلِ لَا مَا تَأَخَّرَتْ عَنْهُ.
|